فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

ثم وصف تعالى أمر جزاء الآخرة أنه {من جاء} بعمل صالح {فله خير} من القدر الذي يقتضي النظر أنه مواز لذلك العمل هذا على أن نجعل {الحسنة} للتفضيل، وفي القول حذف مضاف أي من ثوابها الموازي لها ويحتمل أن تكون {من} لابتداء الغاية أي له خير بسبب حسنته ومن أجلها.
وأخبر تعالى أن السيئة لا يضاعف جزاؤها فضلًا منه ورحمة، وقوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن} معناه أنزله عليك وأثبته، والفرض أصله عمل فرضة في عود أو نحوه فكأن الأشياء التي تثبت وتمكن وتبقى تشبه ذلك الفرض، وقال مجاهد معناه أعطاك القرآن وقالت فرقة في هذا القول حذف مضاف، والمعنى فرض عليك أحكام القرآن، واختلف المتأولون في معنى قوله: {لرادك إلى معاد} فقال جمهور المتأولين: أراد إلى الآخرة، أي باعثك بعد الموت، فالآية على هذا مقصدها إثبات الحشر والإعلام بوقوعه، وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وغيرهما: المعاد الجنة وقال ابن عباس أيضًا وجماعة: المعاد الموت.
قال الفقيه الإمام القاضي: فكأن الآية على هذا واعظة ومذكرة، وقال ابن عباس أيضًا ومجاهد المعاد مكة، وهذه الآية نزلت في الجحفة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة، قال أبو محمد: فالآية على هذا معلمة بغيب قد ظهر للأمة ومؤنسة بفتح، والمعاد الموضع الذي يعاد إليه وقد اشتهر به يوم القيامة لأنه معاد الكل، وقوله تعالى: {قل ربي أعلم} الآية، آية متاركة للكفار وتوبيخ، وأسند الطبري في تفسير قوله: {لرادك إلى معاد} قال إلى الجنة، قال وسماها معادًا إما من حيث قد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء وغيره وإما من حيث قد كان فيها آدم عليه السلام فهي معاد لذريته.
قال الفقيه الإمام القاضي: وإنما قال هذا من حيث تعطي لفظة المعاد أن المخاطب قد كان في حال يعود إليها وهذا وإن كان مما يظهر في اللفظ فيتوجه أن يسمى معادًا ما لم يكن المرء قط فيه تجوزًا، ولأنها أحوال تابعة للمعاد الذي هو النشور من القبور.
{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)}.
قال بعض المفسرين: قوله تعالى: {وما كنت ترجو} الآية ابتداء كلام مضمنه تعديد النعمة على محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى رحمه رحمة لم يحتسبها ولا بلغها أمله، وقال بعضهم بل هو متعلق بقوله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن} [القصص: 85] أي وأنت بحال من لا يرجو ذلك، وقوله تعالى: {يلقى إليك} عبارة عن تقليده النبوءة وتبليغ القرآ،. كما تقول: ألقى فلان إلى فلان بالرياسة ونحو هذا، وقوله تعالى: {إلا رحمة} نصب على استثناء منقطع، والظهير المعين أي اشتد يا محمد في تبليغك ولا تلن ولا تفشل فتكون معونة للكافرين بهذا الوجه أي بالفتور عنهم، وقوله تعالى: {ولا يصدنك} أي بأقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت نحوه وامض لشأنك، وقرأ يعقوب {ولا يصدنْك} بجزم النون، وقوله: {وادع إلى ربك} وجميع الآيات تتضمن المهادنة والموادعة، وهذا كله منسوخ بآية السيف، وسبب هذه الآية ما كانت قريش تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه من تعظيم أوثانهم وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته أمر الغرانيق، وقوله تعالى: {ولا تدع مع الله إلهًا آخر} نهي عما هم بسبيله، فهم المراد وإن عري اللفظ من ذكرهم، وقوله تعالى: {إلا وجهه} قالت فرقة: هي عبارة عن الذات، المعنى هالك إلا هو، قاله الطبري وجماعة منهم أبو المعالي رحمه الله، وقال الزجاج: إلا إياه، وقال سفيان الثوري: المراد إلا ذا وجهه، أي ما عمل لذاته ومن طاعته وتوجه به نحوه ومن هذا قول الشاعر:
رب العباد إليه الوجه والعمل

ومنه قول القائل أردت بفعلي وجه الله تعالى ومنه قوله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الأنعام: 52] وقوله تعالى: {له الحكم} أي فصل القضاء وإنفاذ القدرة في الدنيا والآخرة، وقوله: {وإليه ترجعون} إخبار بالحشر والعودة من القبور، وقرأ الجمهور {تُرجَعون} بضم التاء وفتح الجيم، وقرأ عيسى {تَرجِعون} بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ أبو عمرو بالوجهين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {مَنْ جاء بالحسنة} قد فسرناه في سورة [النمل: 89].
قوله تعالى: {فلا يُجزى الذين عَمِلوا السَّيِّئات} يريد الذين أشركوا {إِلاَّ ما كانوا يَعْمَلون} أي: إِلاَّ جزاء عملهم من الشِّرك، وجزاؤه النَّار.
قوله تعالى: {إِنَّ الذي فَرَضَ عليكَ القُرآنَ}.
قال مقاتل: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار ليلًا، فمضى من وجهه إِلى المدينة فسار في غير الطريق مخافة الطَّلب؛ فلمَّا أَمِن رجع إِلى الطريق فنزل الجُحْفَةَ بين مكة والمدينة، فعرف الطريق إِلى مكة، فاشتاق إِليها، وذكر مولده، فأتاه جبريل فقال: أتشتاق إِلى بلدك ومولدك؟ قال: نعم؛ قال: فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الذي فَرَضَ عليك القرآن لرادُّك إِلى مَعَادٍ} فنزلت هذه الآية بالجُحْفة.
وفي معنى {فَرَضَ عليكَ} ثلاثة أقوال:
أحدها: فرض عليك العمل بالقرآن، قاله عطاء بن أبي رباح، وابن قتيبة.
والثاني: أعطاك القرآن، قاله مجاهد.
والثالث: أنزل عليك القرآن، قاله مقاتل، والفراء، وأبو عبيدة.
وفي قوله: {لرادُّكَ إِلى مَعادٍ} أربعة أقوال:
أحدها: إِلى مكة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية، والضحاك.
قال ابن قتيبة: مَعَادُ الرَّجُل: بلدُه، لأنه يتصرَّف في البلاد ويَضْرِب في الأرض ثم يعود إِلى بلده.
والثاني: إِلى معادك من الجنة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والزهري.
فإن اعتُرض على هذا فقيل: الرَّدُّ يقتضي أنه قد كان فيما رُدَّ إِليه؛ فعنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أنَّه لمَّا كان أبوه آدم في الجنة ثم أُخرج، كان كأنَّ ولده أُخرج منها، فإذا دخلها فكأنه أُعيد.
والثاني: أنَّه دخلها ليلة المعراج، فإذا دخلها يوم القيامة كان ردًّا إِليها، ذكرهما ابن جرير.
والثالث: أن العرب تقول: رجع الأمر إِلى كذا، وإِن لم يكن له كَوْن فيه قطّ، وأنشدوا:
وما المَرْءُ إِلاَّ كالشِّهَابِ وضَوْئِهِ ** يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذ هُوَ سَاطِعُ

وقد شرحنا هذا في قوله: {وإِلى الله تُرْجَعُ الأمور} [البقرة: 210].
والثالث: لَرَادُّك إِلى الموت، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال أبو سعيد الخدري.
والرابع: لَرَادُّك إِلى القيامة بالبعث، قاله الحسن، والزهري، ومجاهد في رواية، والزجاج.
ثم ابتدأ كلامًا يَرُدُّ به على الكفار حين نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إِلى الضَّلال، فقال: {قُلْ رَبِّي أعلمُ مَنْ جاء بالهُدى}؛ والمعنى: قد علم أنِّي جئت بالهُدى، وأنَّكم في ضلال مبين، ثم ذَكَّرهُ نِعَمَه فقال: {وما كُنْتَ ترجو أن يُلْقَى إِليكَ الكتابُ} أي: أن تكون نبيًّا وأن يوحى إِليكَ القرآنُ {إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ ربِّكَ} قال الفراء: هذا استثناء منقطع، والمعنى: إِلاَّ أنَّ ربَّكَ رَحِمَكَ فأنزله عليك {فلا تَكُونَنَّ ظَهيرًا للكافرين} أي: عَوْنًا لهم على دينهم، وذلك أنَّهم دَعوه إِلى دين آبائه فأُمر بالاحتراز منهم؛ والخطاب بهذا وأمثاله له، والمراد أهل دينه لئلاَّ يُظاهِروا الكفَّار ولا يوافقوهم.
قوله تعالى: {كُلُّ شيء هالكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فيه قولان:
أحدهما: إِلا ما أُرِيدَ به وجهُه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الثوري.
والثاني: إِلاَّ هو، قاله الضحاك، وأبو عبيدة.
قوله تعالى: {لَهُ الحُكْم} أي: الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره {وإِليه تُرْجَعُونَ} في الآخرة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} تقدّم في النمل.
وقال عكرمة: ليس شيء خيرًا من لا إله إلا الله.
وإنما المعنى من جاء بلا إله إلا الله فله منها خير.
{وَمَن جَاءَ بالسيئة} أي بالشرك {فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُوا السيئات إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي يعاقب بما يليق بعمله.
قوله تعالى: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ}.
ختم السورة ببشارة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بردّه إلى مكة قاهرًا لأعدائه. وقيل: هو بشارة له بالجنّة. والأوّل أكثر. وهو قول جابر ابن عبد الله وابن عباس ومجاهد وغيرهم. قال القتبي: معاد الرجل بلده؛ لأنه ينصرف ثم يعود.
وقال مقاتل: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من الغار ليلًا مهاجرًا إلى المدينة في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها، فقال له جبريل إن الله يقول: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} أي إلى مكة ظاهرًا عليها.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالجُحفة ليست مكية ولا مدنية.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس {إِلى مَعَادٍ} قال: إلى الموت.
وعن مجاهد أيضًا وعكرمة والزهري والحسن: إن المعنى لرادّك إلى يوم القيامة؛ وهو اختيار الزجاج.
يقال: بيني وبينك المعاد؛ أي يوم القيامة؛ لأن الناس يعودون فيه أحياء و{فَرَضَ} معناه أنزل.
وعن مجاهد أيضًا وأبي مالك وأبي صالح: {إِلى مَعَادٍ} إلى الجنة.
وهو قول أبي سعيد الخدري وابن عباس أيضًا؛ لأنه دخلها ليلة الإسراء. وقيل: لأن أباه آدم خرج منها.
{قُل ربي أَعْلَمُ} أي قل لكفار مكة إذا قالوا إنك لفي ضلال مبين {ربي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أنا أم أنتم.
قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب} أي ما علمت أننا نرسلك إلى الخق وننزل عليك القرآن.
{إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} قال الكسائي: هو استثناء منقطع بمعنى لكن.
{فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيرًا لِّلْكَافِرِينَ} أي عونًا لهم ومساعدًا. وقد تقدّم في هذه السورة.
قوله تعالى: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} يعني أقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت نحوهم وامض لأمرك وشأنك.
وقرأ يعقوب: {يَصُدُّنْكَ} مجزوم النون.
وقرى: {يُصِدُّنَّكَ} من أصدّه بمعنى صدّه وهي لغة في كلب. قال الشاعر:
أُنَاسٌ أصدوا الناسَ بالسيف عنهم ** صُدُودَ السَّوَاقِي عن أنوفِ الحَوَائِم

{وادع إلى رَبِّكَ} أي إلى التوحيد. وهذا يتضمن المهادنة والموادعة. وهذا كله منسوخ بآية السيف. وسبب هذه الآية ما كانت قريش تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تعظيم أوثانهم، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته أمر الغَرَانيق على ما تقدّم. والله أعلم.
قوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ} أي لا تعبد معه غيره فإنه لا إله إلا هو. نفي كل معبود وإثبات لعبادته.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال مجاهد: معناه إلا هو وقال الصادق: دينه. وقال أبو العالية وسفيان: أي إلا ما أريد به وجهه؛ أي ما يقصد إليه بالقربة. قال:
أستغفرُ اللَّهَ ذنبًا لستُ مُحْصِيَه ** ربَّ العبادِ إليه الوَجْهُ والعملُ

وقال محمد بن يزيد: حدّثني الثوري قال سألت أبا عبيدة عن قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فقال: إلا جاهه، كما تقول لفلان وجه في الناس أي جاه.
{لَهُ الحكم} في الأولى والآخرة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
قال الزجاج: {وَجْهَهُ} منصوب على الاستثناء، ولو كان في غير القرآن كان إلا وجهه بالرفع، بمعنى كل شيء غير وجهه هالك كما قال:
وكلُّ أخٍ مُفارقُهُ أخوه ** لَعَمْرُ أبيكَ إلاّ الْفَرْقَدَانِ

والمعنى كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بمعنى ترجعون إليه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خير منها} يحتمل أن يكون خير أفعل التفضيل، وأن يكون واحد الخيور، أي فله خير بسبب فعلها، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {فلا يجزى الذين عملوا السيئات} تهجينًا لحالهم وتبغيضًا للسيئة إلى قلوب السامعين، ففيه بتكراره ما ليس فيه لو كان: فلا يجزون بالصهر، وما كانوا على حذف مثل، أي إلاّ مثل ما كانوا يعملون، لأن جزاء السيئة سيئة مثلها، والحسنة بعشر أمثالها.
{إن الذي فرض عليك القرآن} قال عطاء: العمل به؛ ومجاهد: أعطاكه؛ ومقاتل: أنزله عليك، وكذا قال الفراء وأبو عبيدة.
وقال الزمخشري: أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه؛ يعني أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف ليثيبك عليها ثوابًا لا يحيط به الوصف.
والمعاد، قال الجمهور: في الآخرة، أي باعثك بعد الموت، ففيه إثبات الجزاء والإعلام بوقوعه. وعن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري: المعاد: الموت. وقيل: بيت المقدس. وقيل: الجنة، وكان قد دخلها ليلة المعراج. وقال ابن عباس أيضًا، ومجاهد: المعاد: مكة، أراد رده إليها يوم الفتح، ونكره، والمقصود التعظيم، أي معاد أي معاد، أي له شأن لغلبة الرسول عليها وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله، فكأن الله وعده وهو بمكة أنه يهاجر منها ويعود إليها ظافرًا ظاهرًا. وقيل: نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره، وقد اشتاق إليها، فقال له جبريل: أتشتاق إليها؟ قال: نعم، فأوحاها إليه.
ومن منصوب بإضمار فعل، أي يعلم من جاء بالهدى، ومن أجاز أن يأتي أفعل بمعنى فاعل، وأجاز مع ذلك أن ينصب به، جاز أن ينتصب به، إذ يؤوله بمعنى عالم، ويعطيه حكمه من العمل.
ولما وعده تعالى أنه يرده إلى معاد، وأنه تعالى فرض عليه القرآن، أمره أن يقول للمشركين ذلك، أي هو تعالى عالم بمن جاء بالهدى، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وبما يستحقه من الثواب في معاده، وهذا إذا عنى بالمعاد ما بعد الموت. ويعني بقوله: {ومن هو في ضلال مبين} المشركين الذين أمره الله بأن يبلغهم ذلك، هو عالم بهم، وبما يستحقونه من العقاب في معادهم، وفي ذلك متاركة للكفار وتوبيخ.
{وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب} هذا تذكير لنعمه تعالى على رسوله، وأنه تعالى رحمه رحمة لم يتعلق بها رجاؤه.
وقيل: بل هو معلق بقوله: {إن الذي فرض عليك القرآن} وأنت بحال من لا يرجو ذلك، وانتصب رحمة على الاستثناء المنقطع، أي لكن رحمة من ربك سبقت، فألقى إليك الكتاب.
وقال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. انتهى. فيكون استثناء متصلًا، إما من الأحوال، وإما من المفعول له.
وقرأ الجمهور: {يصدنك} مضارع صد وشدوا النون، ويعقوب كذلك، إلا أنه خففها. وقرىء: {يصدنك} مضارع أصد، بمعنى صد، حكاه أبو زيد، عن رجل من كلب قال: وهي لغة قومه، وقال الشاعر:
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم ** صدود السواقي عن أنوف الحوائم

{بعد إذ أنزلت إليك} أي بعد وقت إنزالها، وإذ تضاف إليها أسماء الزمان كقوله: {بعد إذ هديتنا} ويومئذ، وحينئذ. قال الضحاك: وذلك حين دعوه إلى دين إبائه، أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم، فيصدونك عن اتباع آيات الله.
{وادع إلى ربك} أي دين ربك، وهذه المناهي كلها ظاهرها أنها للرسول، وهي في الحقيقة لأتباعه، والهلاك يطلق بإزاء العدم المحض، فالمعنى: أن الله يعدم كل شيء سواه.
وبإزاء نفي الانتفاع به، إما للإمانة، أو بتفريق الأجزاء، وإن كانت نافية يقال: هلك الثوب، لا يريدون فناء أجزائه، ولكن خروجه عن الانتفاع به.
ومعنى: {إلا وجهه} إلا إياه، قاله الزجاج. وقال مجاهد، والسدي: هالك بالموت إلا العلماء، فإن علمهم باق. انتهى. ويريدون إلا ما قصد به وجهه من العلم، فإنه باق. وقال الضحاك: إلا الله عز وجل، والعرش، والجنة، والنار. وقيل: ملكه، ومنه: {لمن الملك اليوم} وقال أبو عبيدة: المراد بالوجه: جاهه الذي جعله في الناس. وقال سفيان الثوري: إلا وجهه، ما عمل لذاته، ومن طاعته، وتوجه به نحوه، ومنه قول الشاعر:
رب العباد إليه الوجه والعمل

وقوله: يريدون وجهه.
{له الحكم} أي فصل القضاء.
{إليه ترجعون} أي إلى جزائه. وقرأ عيسى: {ترجعون} مبنيًا للفاعل؛ والجمهور: مبنيًا للمفعول. اهـ.